الأربعاء، 14 ديسمبر 2011

المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء


بسم الله الرحمن الرحيم


المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء




الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء :
أيها الأخوة المؤمنون، من دروس العقيدة، وصلنا إلى موضوع جديد هو الكرامات، المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء، فما حقيقة الكرامة؟ هل هي صحيحة؟ هل هي واقعة فعلاً؟ هل نثبتها؟ وإذا أثبتناها فما الأدلة على ذلك؟ وهل الأدلة نقلية أم عقلية، أم نقلية وعقلية معاً؟ وإذا نفيناها فما الأدلة؟

 
فالمسلم يجب أن يتعوَّد ألا يقبل شيئاً إلا بالدليل النقلي من كتاب الله، أو من سنة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألا يرفض شيئاً إلا بالدليل النقلي من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلذلك الكرامات موضوع يكثر الحديث فيه، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني من توضيح هذا الموضوع الدقيق.
 
في دروس سابقة بينت لكم أن المعجزة ممكنة عقلاً، لأن الذي خلق هذا الشيء على هذه الشاكلة يستطيع أن يخلقه على شاكلة أخرى.
﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾
سورة الانفطار: 8 ]
الذي خلق الماء مائعاً، سائلاً يستطيع أن يجعله صلباً يابساً، والذي خلق النار تحرق قادر على أن يجعلها لا تحرق، إذا قيس الأمر بقدرة الله عز وجل فالله على كل شيء قدير، ولقد بيَّنا في دروس سابقة أن هناك أشياء ممكنة عقلاً، وهناك أشياء واجبة عقلاً، وهناك أشياء مستحيلة عقلاً، فالشيء الواجب الوجود هو الله عز وجل، والشيء الممكن هو الكون، كان على هذا الشكل، ويمكن أن يكون على شكلٍ آخر، فهو ممكن، فإذا أدخلنا موضوع المعجزات في هذا الموضوع فالمعجزات ممكنة.
الفرق بين المعجزات والكرامات :
قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
سورة الأنبياء: 69 ]
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
سورة يس: 82 ]
إنّ الله عز وجل جعل لكل شيءٍ سبباً، لكن في أية لحظة يستطيع أن يلغي هذا السبب، أو أن يعطِّله، ليبيِّن لنا أن هذا الشيء مِن خلْق الله، وليس مِن خلْق السبب، فالسبب وُجِد معه، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي خَلَق الشيء، فالمعجزة كما تكلمنا عنها سابقاً في درس مفصل ممكنة عقلاً، لكن قد تكون غير ممكنة عادة، بحسب العادة غير ممكنة، النار تحرق عادةً، فأنْ تضع إنساناً في النار ولا يحترق فهذا غير ممكن عادة، أما عقلاً فهو ممكن، لأن الذي أحرق الإنسان بالنار قادر على ألا يحرقه بها أيضاً، إذا أردنا أن ندخل موضوع الكرامات في هذا الموضوع، فالكرامات أمور ممكنة عقلاً.
﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
سورة البقرة: 20 ]
كما أنه أجرى على يد أنبيائه ورسله بعض المعجزات التي هي خرق للعادات، فمن قدرة الله عز وجل أن يجري على يدِ بعض الصالحين مِن أتباع الأنبياء، وعلى يدِ بعض الأولياء أموراً فيها خرق للعادات، لكن المعجزة، هي خرق لمجرى العادات الكونية مرافقة لدعوة النبوة، هناك إنسان يقول: أنا نبي، وهذه المعجزة، فالمعجزة ترافق دعوة النبوة، ومقرونة بالتحدي، مثلاً فرعون تحدى فجاء سيدنا موسى بالمعجزة التي أسكتته وفندت دعواه، إذاً المعجزة يرافقها دعوة للنبوة ويلابسها تحدٍّ، أما الكرامة فهي خرق للعوائد، ولكن غير مقرونة بالتحدي، ولا بدعوة النبوة، لا هو نبي فيقول: أنا نبي، ولا يقع منه تحدٍّ، إنما هو شيء خارق للعادات، أجراه الله على يدي بعض الصالحين مِن أوليائه المؤمنين، أتباع النبي.
الكرامات لا تلتبس بالمعجزات فالكرامات شيء والمعجزات شيء آخر :
لكن بالمناسبة هناك قيد للكرامة، ما هو القيد؟ أن الله سبحانه وتعالى لا يجري كرامة على يد عبد من عباده الصالحين إلا إذا كان ملتزماً بأوامر الله سبحانه وتعالى، جملةً وتفصيلاً، فإذا كان غير ملتزمٍ بأوامر الله عز وجل، وادعى أنه أُجرِي على يديه كرامة فهذه ضلالة، وليست كرامة، الذي يجعل من خرق العادات كرامة أن الذي أُجرِيتْ على يده إنسانٌ مستقيمٌ، طيبٌ، متبعٌ، غير مبتدعٍ، أما إذا ادَّعى، ولا أقول: جرت، أما إذا ادُّعِيَ أن فلاناً الفلاني الذي لا يصلي، المبتدع الذي في عقيدته زيغ، إذا ادُّعي أنه أُجرِي على يده شيء مخالف للعادة فهذه لا تسمى كرامة، إنما هي ضلالة.
 
لماذا كانت الكرامة؟ لأنها هي شاهد مستمر على إمكان معجزات الأنبياء التي جرت في زمانهم، فهي دليل جزئي على أن هذا الإنسان الصالح، أكرمه الله سبحانه وتعالى بخرق العادات، وحفظه، إذاً مِن باب أولى أن أنبياءه المصطفين، وأن رسله المكرمين تجري على يديهم معجزات باهِرات، دالَّة على رسالتهم، وعلى عظمة الله سبحانه وتعالى.
 
شيء آخر، إن هذه الكرامات تؤكد لأتباع هذا الإنسان الذي أكرمه الله بهذه الكرامة أنّه مقرب عنده، فكأنها شهادة الله لهذا الإنسان، فكيف يشهد الله عز وجل؟ شهد لأنبيائه بالمعجزات، وشهد لرسله بالكتب، فكيف يشهد لبعض أوليائه بالكرامة؟ بأن يجري على يديهم بعض الكرامات، أي بعض خوارق العادات.
 
عندنا ملحوظة ثانية، الكرامة مستواها أقل من مستوى المعجزة، يجوز مِن النبي:
﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
سورة آل عمران: 49 ]
إحياء الميت معجزة، والكرامة أقلُّ من ذلك، فإذا ادعى ولي من أولياء الله أنه يحيي الموتى نقول له: لا، الكرامة ليست بمستوى المعجزة، الكرامة يجب أن تكون في مستوى أقلَّ من مستوى المعجزة.
 
شيء آخر، المعجزة لها صفة جماهيرية، يُدعَى الناس جميعاً لمشاهدتها، فيها تحدٍّ، ترافق ظهور رسالة سماوية، أما الكرامة فلها طابع فردي، ومستواها أقلُّ من مستوى المعجزة، وطابع الكرامة طابع فردي، وليس طابعاً جماعياً، لهذه الفروق والقيود التي وضحتها لكم يتبين أن الكرامات لا تلتبس بالمعجزات، فالكرامات شيء، والمعجزات شيء آخر، لن تختلط الكرامة بالمعجزة، الكرامة لها مستوى، والمعجزة لها مستوى، الكرامة على شكل فردي، والمعجزة على شكل جماعي، المعجزة يرافقها ظهور نبي، أو نزول وحي، أو نزول رسالة، بينما الكرامة لا يرافقها شيءٌ مِن هذا، مع المعجزة تحدٍّ للناس جميعاً، ومع الكرامة ليس هناك تحدٍّ، هذه بعض الفروق والقيود.
الكرامات نوعان كرامات تجري وفق العادات وكرامات تجري خلاف العادات :
شيء آخر، هناك تكريم من الله لبعض الناس، لبعض الصالحين المستقيمين، الملتزمين، المتبعين، غير المبتدعين، هناك تكريم لهم يجري وفق العادات، لا خلاف العادات، ما هو التكريم الذي يكرم الله به بعض عباده وفق مقتضى العادات وليس خلافها؟ قالوا: هو العلم، فقدْ يمنح هذا الإنسان العلم، فالعلم تكريم، وأيُّ تكريم، بل هو أرفع درجات التكريم، وليس في العلم خرق للعادات، إذاً الكرامات نوعان؛ كرامات تجري وفق العادات، وكرامات تجري خلاف العادات، برأيكم أي الكرامات أرفع عند الله درجة، التي تجري وفق العادات، أم التي تجري خلاف العادات؟
 
إذا ذهبت إلى طبيب، وكان هذا الطبيب ماهراً، وعالماً، ومدققاً، وقد أوتي علماً دقيقاً في مهنته، وأنت مريض، فإذا طار الطبيب أمامك، وحلّق في الهواء، وأنت بقيت مريضاً، هذه الحالة خيرٌ أم أن يفحص مرضك، ويشخص الداء، ويصف لك الدواء، فتشفى؟ فأنت أمام طبيب، أو أمام طبيبين، أحدُهم آتاه الله علماً عميقاً، وقدرة على تشخيص المرض، وقدرة على وصف الدواء المناسب، وطبيب آخر آتاه الله شيئاً من خوارق العادات، فلما دخلت عليه طار في الجو أمامك حتى وقف عند السقف، واللهِ إن هذا لشيء عظيم، ومنظر مذهل، أنت لا زلتَ مريضاً، أنت بحاجة إلى مَن؟ إلى الذي أوتي العلم، العلم شيء ليس فيه خرق للعادات، شيء طبيعي، لذلك العلماء قسموا الكرامات نوعين، خرقٌ للعادات، ووفق العادات، وهذا النوع الذي يجري وفق العادات، وفي مقدمة هذه الأنواع العلم أو القوة الجسمية.
﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾
سورة البقرة: 247 ]
من الكرامات أن يفتح الله لأوليائه آفاق العلم والمعرفة :
إنسان قوي آتاه الله عز وجل قوة، هذه كرامة، لكن وَفق العادات، العلم كرامة وفق العادات، أو القدرة على التوجيه، أو القيادة، أو الرئاسة، هذه قدرة أيضاً، هناك إنسان عنده إمكانية يجمع الناس حوله، وعنده إمكانية أن يوفق بين متخاصمين، عنده قوة حجة، عنده قوة إقناع، عنده سياسة، عنده فهم، عنده حكمة، فالحكمة، والفهم، والسياسة، والكياسة، والقوة الجسمية، والعلم، هذه كلها كرامات، لكنها كرامات وفق مقتضى العادات، وليس فيها خرق للعادات، أو أن يعطيه مالاً وفيراً، أو أن يجعله ينجب أولاداً في مستوى ذكاء رفيع، نابهين، كلهم أطباء، أخلاقيين، فيهم فطنة، لهم سمعة طيبة، فهذه كرامة، إذاً أن يؤتيك الله علماً، كرامة، أن يؤتيك الله قوة، كرامة، تتمتع بجسم قوي، يقول لك: واللهِ لا أعرف المرض، ومِن كرامة الله لهذا الإنسان حكمة، والقدرة على تدبير الأمور، والفطنة، وحسن التصرف، والتكيف، هذه كلها كرامات: وكذا المال، والزوجة الصالحة، والأولاد الأبرار، هذه كرامات تجري وفق العادات، والله سبحانه وتعالى يكرم بها بعضاً من عباده الصالحين، وقد يكرم بعض عباده بأن يجري على أيديهم خوارق العادات. من الكرامات التي وردت في كتب العقيدة، أن يفتح الله لأوليائه آفاق العلم والمعرفة، فهذه كرامة، والدليل قوله تعالى:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
سورة البقرة: 282 ]
هذه كرامة، إذا آتاك الله عز وجل حسْنَ الفهم، كأنْ يؤتيك فهماً سليماً لكتاب الله، تقرأ الآية فتفهمها سريعاً، تتضح لك أبعادها ومراميها، علاقتها بالآية السابقة، مدلولاتها، هذه كرامة مِن الله عز وجل بأن يفتح عليك آفاق العلم والمعرفة، والدليل هذه الآية:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
سورة البقرة: 282 ]
كرامة الله لأوليائه الصالحين أن يجعل لهم مخرجاً :
كرامة الله لأوليائه الصالحين أن يجعل لهم مخرجاً.
﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾
سورة الطلاق: 3]
الحياة فيها أزمات، وفيها ورطات، وفيها مشكلات.
كن عن همومك معرضــاً  وكِلِ الأمورَ إلى القضـا
و أبشر بخير عاجــــل  تنسَ به ما قد مضــى
فيا رُبَّ أمرٍ مســــخط  لك في عواقبه رضــا
ولربما ضاق المضـــيق  ولربما اتسع الفضــا
الله يفعل ما يشـــــاء  فلا تكن معترضـــا
الله عودك الجميـــــل  فقف على ما قد مضى
* * *
الحياة فيها مشكلات، قد تنزل بالمرءِ مشكلة، ورطة، مصيبة، فالأمور تتعقد، ثم يفتح الله سبحانه وتعالى إكراماً لك أيها المؤمن مخرجاً لم يكن في الحسبان، يخلق لك فرجاً بعد اليأس، وحلاً بعد التعقيد، بعد أن نزلت واستحكمت حلقاتها فرجت، وكان يظن أنها لا تُفرَج، هذه كرامة، يمكن أنْ يكونَ كل واحد منكم مكرماً عند الله، وكل واحد منكم حصراً، على هذه المقاييس، إذا أوتِيَ شخصٌ فهماً كتاب الله فهذه كرامة، إذا آتاه اللهُ الحكمة فقد أكرمه، إذا وقع في ورطة فأخرجه اللهُ منها سالِماً فقد أكرمه، فهذه إذاً أنواع الكرامات.
 
سبحان الله كلمة (مخرج) تعني أن الأمور محكمة ولا أمل، إلاّ أنّ الله عز وجل لحكمة بالغة لا يفتح لك المخرج إلا بعد أن تحكم الشدائد من كل جهة، طرقت باب فلان فإذا هو مسافر، وفلان وَعَدَك بمبلغ، ثم قال لك: لا أملكه نقداً، فلان قال لك: لمجرَّد أن تشعر بحاجة فهذا هاتفي، ثم تغيَّر رقم الهاتف، قال لك فلان: تعال إليّ، فذهبت إليه، فما سُمِح لك بالدخول، نزلتْ فلما استحكمتْ حلقاتها فرجت، وكان يظن أنها لا تفرج، فإن يكن لك مخرج من أزمة مستحكمة فهذه كرامة أيضاً، كرامة من الله عز وجل.
من كرامات الأولياء المؤمنين أن ينصرهم الله ويؤيِّدهم :
الآن من كرامات الأولياء المؤمنين أنه يكافئهم على نصر دينه، بأن ينصرهم، ويؤيِّدهم، وأن يجعلهم فوق أعدائهم، وذلك بتهيئة الأسباب، ودفع الموانع، وإلقاء الرعب في قلب العدو، وذلك في مثل قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾
سورة محمد: 7]
فهذه كرامة، مكافأةً لك على أنْ نصرتَ دين الله، وعلى أنك وقفت إلى جانب الحق، وعلى أنك آثرت إرضاء الله عز وجل، وأسخطت الخلق، وأرضيت الحق، مكافأة لك على كل ذلك ينصرك على عدوك، ويرفع لك ذكرك، ويعطيك أسباب التفوق، ويزيل من أمامك موانع التقدم، ويلقي الرعب في قلوب أعدائك، ويصبغ عليك هيبةً كبيرة، يجعل الناس يتهيبون منازلَتَك، هذه كرامة أيضاً.
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
سورة القصص: 5-6]
هذا تعليق لطيف، قال مؤلف الكتاب: وظاهر أن الإكرام بالعلم أو التأييد بالنصر أجلُّ وأرفع من الإكرام مثلاً بالمشي على الماء، أو الطيران في الهواء، أو طي المسافات البعيدة في زمنٍ قصير، أو تحضير الطعام والشراب في مكان ليس فيه طعام ولا شراب، العلم، والفهم، والحكمة، والقدرة على توضيح الحق للناس، والنصر، والتأييد أرفع عند الله عز وجل من أن تمشي على سطح الماء، أو أن تطير في الهواء، لذلك هذا كلام مؤيد بالأدلة القرآنية القطعية الثبوت، القطعية الدلالة، فكلٌ منكم فيما أعتقد أنّ الله سبحانه وتعالى أكرمه بأن فهّمه، وأكرمه بأن علّمه، وأكرمه بأن حفظه، وأكرمه بأن جعل له مخرجاً مِن بعض أزماته، وأكرمه بأن أيده، وأكرمه بأن قرَّبه، هذا أكبر تكريم.
الكرامة ثابتة نقلاً وعقلاً :
لذلك يجب أن نعتقد، ونحن ندرس العقيدة الإسلامية، يجب أن نعتقد أن الكرامات جائزة الوقوع، وأنه لا مانع من أن يجريها الله على يدي بعض الصالحين من عباده إكراماً لهم، وتأييداً للرسول الذين هم مِن أتباعه.
 
وما دامت الكرامات ثبتت عقلاً يمكن أنْ يلقي الله عز وجل في قلب عدوك الرعب منك، ويمكن لله عز وجل أنْ يلقي عليك هيبة، فهذا الخصم يخاف منك، رغم أنك أضعف منه، يمكن لهذا الذي سوف يحاسبك ألاّ يرى هذه المخالفة، فإنّ الله عز وجل صرفه عنك، ونجاك منه، ممكن، يمكن لهذه الورطة بعد أن استحكمت حلقاتها أنْ يفُتح لك باب تخرج منها، فاقتنعنا الآن أن الكرامة ممكنة عقلاً، لأن الله على كل شيء قدير، ولأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، هذا الذي سيحاسبك حينما تمرُّ أمامه ليحاسبك يأتيه خاطر متعلق ببيته مثلاً فلا يدقق، فتنجو منه، وهذا ممكن، لأن قلبه بيد الله عز وجل، وعلى هذا فهناك آلاف القصص، ما في إنسان إذا قال: يا رب، إلا قال الله عز وجل له: لبيك يا عبدي، فعندئذٍ يُعمِي اللهُ عنك، فهذه كرامة، وقد يجعل عدوك يخاف منك، ويتهيبك، فتجد حلاً، إذاً الآن أثبتنا أن الكرامة ممكنة عقلاً، هل هناك دليل نقلي، مِن القرآن، أو الحديث الصحيح.
 
أيها الأخوة الأكارم، إن هناك صوراً كثيرةً من الكرامات قد أثبتها القرآن الكريم، وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ مِن الكرامات أثبتتها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن هناك كرامات كثيرة وردت عن أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله عليهم. إذاً لا يمكن أن تنكر الكرامة، لا مِن وجه عقلي، ولا من وجه نقلي، فهي ثابتة نقلاً وعقلاً، والنقل يتوافق مع العقل، والعقل يتوافق مع النقل. لكن لدينا تحفُّظ مهمٌّ جداً، أتمنى عليكم أن تدققوا فيه، لا داعي إذاً لإنكار الكرامة، على أنه متى ظهرت أمارات الصدق في طريق روايتها سلَّمنا بها.
 
فلو فرضنا أن شخصاً كذاباً قال لك: فلان أكرمه الله عز وجل، ونجاه من ورطة كبيرة، قد يكون ناقلُ الخبر كذاباً، فهل هذه كرامة؟ لا، لا تثبت هذه الكرامة إلا إذا وردتنا بالخبر الصادق، الآن هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، شخصٌ أكرمه الله عز وجل مثلاً، وشرب خمراً ولم يحاسبه، وجعله ينطلق بملكوت السماوات والأرض، وهو سكران، مثلاً، نقول له كفى دجلاً إنك امرؤٌ ضال، يجب أن يكون موضوع الكرامة وَفق طاعة الله عز وجل، فإذا تضمنت الكرامة المزعومة مخالفة لظاهر الشرع، أو فيها معصية، أو فيها منكر، أو فيها تعطيل لحكم الله، أو نحو ذلك، فهذه ليست كرامة، بل هي ضلالة، حتى لا يقول أحد لك: واللهِ حدَث معي كذا وكذا، ويصف نفسه أنه من أهل الكرامات، ما دام هذا الذي يدَّعي الكرامة ضالاًّ، ومتلبِّساً بمعصية، وعنده تعطيل لحكم الله عز وجل، ويتصف بالفسق والفجور، فهذه كلها ضلالات من الشيطان.
قصة أهل الكهف من الكرامات التي وردت في كتاب الله :
يجب أن تصلنا الكرامة عن طريق الخبر الصادق، وأما مضمونها فيجب ألاّ يكون فيه مخالفة للشرع، وألاّ يكون فيها معصية، أو منكر، أو تعطيل لحكم الله، أو نحو ذلك، فإذا تضمنت شيئاً من ذلك رفضناها رفضاً باتاً، بل هي ليست بكرامة، إنما هي ضلالة من ضلالات الشياطين. فلان الفلاني يجلس مع النساء، فشعر أن أمْراً سيقع فقام من فوره من المجلس، هذا ليس أهلاً لأن تجري على يديه كرامة، فضلاً على أن الغيب لا يعلمه أحد، اطمئنوا فلا يعلم الغيب إلا الله، والآن صرنا بحاجةٍ إلى الدليل بعد كل هذا، فأين الكرامات التي وردت في كتاب الله؟ قصة أهل الكهف، يا ترى أهل الكهف هل هم أنبياء؟ لا، هل هم رسل؟ لا، فقصة أهل الكهف:
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾
سورة الكهف: 13]
فروا من ظلم الملك الكافر الذي كان في زمانهم.
﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾
سورة الكهف: 16]
في بعض الجبال، فأنامهم الله:
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ﴾
سورة الكهف: 25]
هل هناك إنسان ينام ثلاثمئة سنة وتسع سنين؟ هذه كرامة، لو أنهم أنبياء لكانت معجزة، لو أنهم رسل لكانت معجزة، ما داموا ليسوا بأنبياء ولا برسل بل هم صالحون، طيبون، مؤمنون، فنومهم المديد كرامة لهم، وهذا النوم المديد خرق من خوارق العادات، وقد أكرمهم الله بذلك وهم فتية مؤمنون، صالحون، وليسوا بأنبياء.
﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَباً*إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً*فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً*ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ﴾
سورة الكهف: 9-12]
قصة السيدة مريم الصدِّيقة أيضاً من الكرامات :
السيدة مريم، الصديقة، هل هي من الأنبياء؟ لا، النبوة محصورة بالرجال، ومع ذلك أجرى الله على يديها شيئاً من خوارق العادات، فقد حملت بسيدنا عيسى عليه السلام دون أن يمسها بشر، أليس هذا خرقاً للعادات؟ قال تعالى:
﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
سورة آل عمران:47]
لما أحست السيدة مريم بقرب ساعات الوضع ابتعدت عن أهلها إلى مكانٍ خالٍ من الجهة الشرقية، وجلست إلى جانب شجرة من أشجار النخيل التي لا ثمر فيها، وحصلت لها من المساعدات الربانية عند مخاضها أمور كثيرة، منها تساقطُ الرطب عليها من النخلة غير المثمرة لمّا هزّتْ جذعها، قال عز وجل:
﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ﴾
سورة مريم: 25]
هذه كرامة لها، أما في حق سيدنا عيسى فهي معجزة، لكنها ما دامت قد جاءت قبل الرسالة فهي إرهاص، كما تحدثنا عنه من قبل. الكرامة الرابعة: لما وضعت ابنها عيسى عليه السلام حملته، وجاءت به إلى قومها، فجعلوا يوجهون إليها الأسئلة، ويحرجونها بالاتهامات الساخرة، وهي صامتة، لا تحير جواباً، وألَحُّوا في استجوابها عن سبب حملها الذي لم يتصوروا فيه على حد تفكيرهم الضيِّق إلا الفاحشة، وهي منها براء، فأشارت إلى ولدها الرضيع.
﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً*قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً *وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾
سورة مريم: 29-31]
هذه كرامة، لأنه ليس من السهل أن يتكلم طفل عمره ساعات، أو أيام، يتكلم، ويقول:
﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً *وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾
أمثلة أخرى وردت في القرآن في موضوع الكرامة :
السيدة عائشة رَضِي اللَّه عَنْها، نزلت آيات قرآنية تؤكد براءتها مما اتهمت به من حديث أهل الإفك، فأكرمها الله عز وجل بأن برَّأها بقرآنه الكريم، هذه كرامة أيضاً، وهي ثابتة في القرآن الكريم، ويتضح لكم بهذا كلِّه أن الكرامات مذكورةٌ في قرآن.
 
هناك غلام نشأ في اليمن في عهد ملك من ملوك حمير، استعبد الناس، وصدّهم عن الإيمان بالله، وكان لهذا الملك ساحر، فلما كَبُر الساحر قال للملك: إني قد كبرتْ سني، فابعث إلي غلاماً أعلّمه السحر، فاختار الملك غلاماً، وبعث به إليه، وتتلمذ الغلام على يد الساحر، وأراد اللهُ بالغلام خيراً، فكان يتصل براهب، يأخذ عنه الدين والعبادة، وكان بيتُ الراهب بين منزل أهل الغلام، وبين بيت الساحر، وكان يحتال بتبرير تأخره عن الساحر صباحاً، وعن أهله مساءً، وقد تقدم هذا الغلام في درجات التقوى حتى أجرى الله على يديه كرامات كثيرة، منها أن دابة خاف الناس منها، وقطعت عليهم طريقهم، فأخذ حجراً، وقال: اللهم إن كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك مِن أمرِ الساحر فاقتلْ هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، فآمن الناس به، سمعوا راهباً، وسمعوا ساحراً، فالراهب رجلُ دينٍ، والساحر رجل كذاب، حينما رأى الملِكُ بعضَ الناس قد آمنوا بالله خالق السماوات والأرض حقد عليهم، وعذَّبهم وقتلهم، طبعاً القصة طويلة، حاول الملك أن يقتل الغلام فلم يتمَكَّن أول مرة، لا في البحر، ولا في الجبل، فحاولوا أن يأخذوه إلى الجبل فيردوه من فوقه، فما تمكنوا، أخذوه إلى عرض البحر ليغرقوه فما تمكنوا، فكان الله عز وجل يحفظه، ويميت مَن معه، ويحفظه هو، إلى أن قال الغلام للملك: إنك لستَ بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع شجرة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي، ثم تضع السهم في كبد القوس، وتوجِّهه نحوي، ثم قلْ: بسم الله رب الغلام، وارمِ به، فإن فعلتَ قتلتني، ليس لك أن تقتلني إلا بهذه الطريقة، فلما فَعَل الملِكُ ذلك قتلَه بهذه الطريقة، فكَبَّر الناس جميعاً، وآمنوا بالله خالق السماوات والأرض، وكفروا بهذا الملك الذي يدعي أنه رب، فهذا الغلام قد ضحى بحياته من أجل أن يؤمن الناس برب العالمين، هذه كرامة وردت في بعض الكتب الصحيحة، والله سبحانه وتعالى أشار إليها فقال:
﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود*وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾
سورة البروج: 4-8]
لما آمنوا بالله عز وجل حفر لهم الملِكُ أخدوداً، وأشعل فيه النار، وأحرقهم فيه.
 
فهذه بعض الأمثلة التي وردت في القرآن في موضوع الكرامة، وإن شاء الله صار الموضوع واضحاً، فالكرامة حق، وممكنة عقلاً، وممكنة نقلاً، ثابتة بالعقل، وثابتة بالنقل، النقل يعني آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة تؤكِّد الكرامة، لكن أتمنى أن يبقى في أذهانكم أنّ أرْفعَ الكرامات هو العلم، والمعرفة، والحكمة، والقدرة على هداية الناس، وهذه هي الكرامة المجدية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق